عَهْدُ مَا قَبْلَ التَّارِيخ
لقد مرَّ الإنسانُ القديم خلال الأزمنة السحيقة المعروفة بعهدِ ما قبل التاريخ بثلاث مراحل رئيسيَّةٍ باعتبار حياته الاقتصادية:
- ففي المرحلة الأولى كان مُتَوَحّشا مُتَنَفَّلا يجمَعُ الطعامَ من الثَّمارِ والصَّيْدِ حيثما وجدهما.
- وفي المرحلة الثانية كان قد عَرَفَ النار وتوصل إِلَى تَدْجِينِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَأَخذ يُنتج طعامه بنفسه.
- وفي المرحلة الثالثة أتقن الإنسانُ الزراعة وبنَى القرى وصنع الْخَزَفَ والنسيج وأخذ يُطَوِّرُ أدواتِهِ وآلاتِهِ الحجريَّةَ والعظميّة والخشبيّةَ، والعاجيّةَ. وفي آخر المرحلةِ عَرَف المعادنَ كالذهب والفِضَّةِ والنُّحاس والبرونز والحديد.
ومن المرجح أن زراعة الحبوب قد بدأت صُدْفَةً، وذلك
عندما سَقَطَ من الحبوب على الأَرْضِ قربَ مَدْخَلَ الْغَار أو الكوخ، ثم ما لبث الْحَبُّ
أَنْ نبت ونمَا نُمُواً حسنا في الربيع التالي، الأمر الذي استرعى انتباه أحد افرادِ
العائلةِ الأذكياء... وهكذا تَمَهَّدَ السبيلُ لزراعة الحبوب وغرس الخُضَرِ وأشجار
الفاكهة بطريقةٍ منتظمةٍ، ولظهور الفلاح المُحترف لأول مرة في التاريخ.
وفيما يَخُصُّ النقل ووسائله، فقد كان الإنسان
القديمُ يَحْمِل متاعه بنفسه أول
الأمر، ثم لما دجّنَ الحيوانَ اسْتَخدَمَهُ ناقلا لأثقاله.
ولم يلبث الإنسان أن صنع جَرَّارَةً بدائيةً
حيث جعل دَابَّتَهُ تجرُّ على الأَرْضِ غصونا طويلةً كان يضع عليها متاعَه، ثم وضع
جذوعاً من الشَّجَرِ تحت الجَرَّارَةِ كأنها
عجلات
ثم قطع الجذوعَ شَرَائِحَ مُسْتَعْرَضَةً
وابتكر أعظم اختراع آلي، ألا وهو الْعَجَلَةُ، لأنه وضع العجلات تحت الجرارة وصنع بذلك
عربةٌ تُجَرُّ وتُدْفَعُ.
وللسَّيْرِ فوق الماءِ، إِتَّخَذَ الإِنسانُ أول
الأمر شقُوفاً تَطْفَو به فوق المياهِ بِأَنْ رَبَطَ عِدَّةَ جُذُوعِ وَأَحْكَم وِثَاقَهَا
بِحِبَالٍ متينةٍ، ثم صنع زَوْرَقَهُ الْأَوَّلَ بأن أَخَذَ جذعا ضَخْماً وحفر فيه حُفْرَةً مستطيلةً
كانت هي ظهرَ الزَّوْرَق المستعمل للركوب والنَّقْل فوق مياه الأنهار والبحيرات والبحار. وطَفِقَ الإِنْسَانُ يسبح بزورقه، دافعا
إِيَّاهُ بالمِجْذَافِ، ثم بالمجداف والشراع معا، حتى عبر في شجاعة من جزيرة إلى جزيرة،
وأخيرا قَطَعَ الْبِحَارَ لِيَنْشُر
ثقافته المتواضعة من قارة إلى قارة.
السُّومَريونً
السومريون شعبٌ كان مستقراً في جنوب بلاد
الرافدين حوالي سنة 3000 ق.م «ولعلهم جاءوا إليها من آسية الوُسْطَى أَوْ بلاد القُوقَازِ
أو من أَرمينية، واخترقوا أرض الجزيرة من الشمالِ مُتَتَبَّعين في سَيْرِهِمْ مجَرَى
دجلة والفرات».
وعندما استقرُّوا شَادُوا قُرىً ومدنا مزدهرةً
منها أرِيدُو، أور، لارسا لكش، نِبُّور.
استعمل السومريون منذ فجر التاريخ الفسيفساء لتزيين مبانيهم
والمصورة الأعمدة قصر في مدينة أوروك |
من أعظم الأعمال الانشائية في الحضارة السومرية،
فقد أخرجت الحقول التي عُنُوا بِرَيْهَا وزرعها محصولاتِ موفورةً من الدُّرَةِ والشعير
والقمح والبلح والخُضر الكثيرة المختلفة الأنواع، وظهر عندهم المحراث الخشبي تجره الثيران
منذ أقدم العصور، وتتصل به أنبوبةٌ مشقوقة لِبَذر البُذُور، وكانوا يدرسون المحاصيل بعربات كبيرة من الخشب.
واستخدمَ السومريون النحاس والقصدير وكانوا
يَخْلِطُونَهُمَا ليصنعوا منهما البرونز، وبلغ من أمرهم أنهم كانوا من حين إلى حين
يصنعون آلات كبيرة من الحديد وقد وجدَتْ في مقابرهم كميات كبيرة من الذهب
والفضة منها ما هو حلي،
ومنها ما هوَ أَوانٍ وأسلحةٌ وزخارفُ.
غير أن الكتابة المِسْمارِيَّةَ
هي أروع ما خلَّفَه السومريون. إذ كانوا يَخْطُونَ على ألواح طينية طرية بواسطة قلم
إذا ما عُرِزَ في الطينِ، ترك فِيهِ طابعاً يُشبه المِسْمارَ أو الإِسْفِينَ في شكلِهِ،
ثم يضعون تلك الألواح الطينية المخطوطة في فُرْنِ حَامٍ لِشَيْهَا فتجفٌ، وتتصلَّبُ،
وتُصبحُ كالخَزَفِ المنقوش، أو يعرِّضُونَهَا الحرارة الشمس فَحَسْب.
كان السومريون أول حضارة طورت الكتابة ، ج. 3200 ق.
اللغة السومرية هي لغة معزولة وبالتالي لا علاقة لها بأي لغة أخرى معروفة. تنتمي إلى عائلة اللغات الأفرو آسيوية التي تضم اللغات المصرية والبربرية والكوشية والسامية مثل العربية والعبرية واللغات التشادية مثل الهوسا. اللغة السومرية موثَّقة في حوالي 30 ألف لوح وشظايا. الغالبية العظمى من هذه النصوص هي سجلات اقتصادية على ألواح طينية من أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. ولكن هناك أيضًا بعض النصوص الأدبية (الأساطير مثل "جلجامش") ونقوش على المباني العامة ("اللولابا" أو الأحجار الحدودية) من الألفية الثالثة قبل الميلاد.
أشهر هذه الألواح هي ملحمة جلجامش. يروي كيف خُلق جلجامش بعد أن وضع إله بيضة ملتفة حولها ثعبان.
واستطاع السومريون بفضل الرموز المسمارية أن يكتبوا
ما شاءوا من السجلات والعُقودِ التجارية والوثائق الرسمية والأحكام القضائية والبيوع
وأيضا
الشُّعرِ والقَصَص
والأفكار الدينية.
كتشاف النار وَاسْتِعْمَالُ الْمَعَادِنِ
لقد كان الحَجَرُ أَوَّلَ مادَّةٍ تناولها
الإِنْسانُ القديم بالاستعمال. ثم حصل على العَظم والخشب والعاج، فصنع
منها مجموعةً متنوعة من الأَسْلِحَةِ
والآلاتِ، لكن اكتشافه العظيمَ الذِي قَادَه إلى الصناعةِ كان هو النَّار. فكيف وقع
اكتشافها؟
إن في الطبيعةِ ظواهر كثيرةً للنار والاشتعال
لا بد أن الإنسان القديم كان يلاحظها ويعاين نتائجها في بيئته باستمرار: فالبراكين
عندما تثور تخرج منها النيران، وقد تُشْعِلُ الحرائِقَ فما حَوْلَها البرق أيضا قد
يُشْعِلُ النارَ في الغاباتِ كما يحدث الآن، ومن المُحْتَمَلِ أن إنسان الكهوف كان
يحمل إلى كَهْفِهِ بعضاً من فروع الأشجار المُشْتَعِلَة ليقهَرَ بها عدوَّهُ المخيف
ألا وهو الظلام. وعن طريق حَكَ
الأحجار مع بعضها، استطاع أن يُوقِدَ النَّارَ مَتَى شاءَ.
وقد كانت للنار المكتشَفَةِ فوائد عظيمة
في تطور حياةِ الإِنسان البدائي: فهي التي مَكَّنَتْهُ مِن اتقاء البردِ الناشئ عن
الجليدِ أثناء العصور الجليدِيَّةِ، وأتاحَتْ له النوم في الليل الحيوانِ، وهي
التي خلقَتْ فَنَّ الطَّهى القديم ووسَّعَتْ نِطَاقَ الأَطْعِمَةِ لَدَى الْإِنسَان.
وأخيرا، فإن النار هي التي أدت الانسان
إلى صهر المعادن وطَرقهَا وتشكيلها فاتخذ منها ما شاء من آلات وأدوات.
وربما كان النُّحاس أولَ مَعْدِنٍ عَرَفَه
الإنسان واستخدمه. وقد تعرَّف عليه صُدْفَةٌ
مُذَاباً بين الأَحْجَارِ التِي التَّحَاسَ عن قَصْدٍ في إناء من الطِّينِ والرَّمْلِ،
وصنع منه الرماح، والفؤوس، والسكاكين، والأواني والأسلحة.
وما أَنْ كَشَفَ الإِنْسَانُ عن عمليَّةِ
الاِسْتِعْدَانِ في النحاس حتى استخدمها في مجموعة متنوعة من المعادِنِ الأُخرى كالبرونز
والذهب والفضة والحديد.
ولقد بلغت النارُ في أَعْيُنِ الإِنسان البدائي من الغرابَةِ والنفع حَداً جعلها لديه إحدى المعجزاتِ التي تستحِقُّ أن تُتَّخَذَ (الها) وتُعبَدَ، ولذلك أقام لها ما لا يُحْصَى عَدَدُهُ من الحفلات التَّعَبدِيَّةِ، وجعل منها مَرْكَزاً لحياته وبيئَتِهِ، فلم يَعُدْ يُطِيقُ مُفارقتها بحال من الأحوالِ.